الاثنين، 30 سبتمبر 2013

الفرق بين رأس المال الذكى والغبى


في بداية السبعينيات بدأ أستاذ الاقتصاد جون كاو بالبحث في ظاهرة الإبداع الاقتصادي. وبعد مرور عشرة أعوام، وتحديدا في عام 1983، ألقى أولى محاضراته عن الإبداع بكلية الاقتصاد في جامعة هارفرد. وبعد مرور عامين، تقدم 2000 دارس من طلاب السنة الثانية لماجستير إدارة الأعمال للتسجيل في محاضراته. واجتذبت ندوات كاو بعد ذلك مديري أكبر الشركات في الولايات المتحدة مثل "إيه تى آند تى" و"ميريل لينش". وبعد مرور كل هذه السنوات، لم يعد الحديث الآن مع المديرين عن الإبداع خارج مصر حديثا عن غير الملموس أو عن مسألة متقلبة مثل الطقس، فقد تمطر أو لا تمطر. لكن عن علم يدرس ويعمل به. وهو ما تسبب منذ سنوات عديدة في استحداث منصب مدير الإبداع. ما يفعله هذا المدير هو مجموع الخطوات التي تولد أفكارا جديدة يتم تطويرها ثم تحويلها إلى قيمة ملموسة. وإذا لم تتحول الأفكار الجديدة إلى واقع فلا إبداع ولا مدير لما لم يحدث. 


والإبداع كاللغة، له النحو والصرف الخاص به. المبتدأ هو المعرفة في صورتها الخام من بيانات ومعلومات غير مترابطة. والخبر هو استخلاص نتيجة من هذه المعلومات. على سبيل المثال، قامت الهند منذ سنوات بدراسة سوق البرمجيات الدولي وجمع البيانات اللازمة، وهذا هو "المبتدأ". واستخلصت أن العالم سيعاني خلال سنوات قليلة مقبلة، نقصا في أعداد مبرمجي لغة الفورتران، وذاك الخبر هو “الخبر”.


أسفرت هذه المعلومة الجديدة مع قليل من مزيج الخيال والطموح عن تساؤل هو “ما الذي نستطيع فعله حيال هذا؟”. هنا يأتي دور الإبداع، وهو القدرة على تحويل شكل من أشكال المعرفة إلى الشكل التالي له. أما "الفعل" الإبداعي فكان قيام الهند بتنفيذ برنامج قومي لتخريج بضعة آلاف من المبرمجين الأكفاء المتخصصين في لغة الفورتران. والفاعل هو الحكومة الهندية التي استطاعت أن تجد لمبرمجيها مكانا في أسواق العمل الدولية. وكان "المفعول به" هو المبرمجين الذين تم تصديرهم بعيدا لأوروبا، وبعيدا جدا إلى الولايات المتحدة. وبعد اكتساب مبرمجي الهند شهرة وثقة الأوساط المعلوماتية في الغرب، تولد موقف جديد. ونجحت برامج القطاع الخاص الهندي منذ سنوات عدة فى السيطرة على البورصة الأميركية.

ولأن الإبداع الاقتصادي أصبح الآن علماً، فقد ترتب على هذه الحقيقة تصنيف رأس المال إلى نوعين، رأس مال تقليدي، وآخر إبداعي. وعند بيع أو شراء الشركات توضع الأصول الإبداعية في حساب الصفقة. أما في مصر فلا توجد لدينا محاضرات عن تطبيق الإبداع ولا عن السلوكيات المضادة له، ما عدا ركوب عربات مترو الأنفاق من جميع الأبواب والنزول من جميع الأبواب، في تدافع كهروب القطعان. وهي عملية تجعلك تفكر بإبداع في التخلص من جميع الركاب. وللأسف، فكل المبررات معدة سلفا لدى الحديث عن مشاكل العملية الإبداعية. لكن الحقيقة أن مصر ليس لديها أي عذر! هل معوقات الإنجاز لدينا مثل التي كانت لدى الصين؟ أو مثل مشاكل الهند التي بدأت بعد الصين؟ وعموما ليست المشكلة في الحكومة بل هي في ملعب القطاع الخاص الآن. إذا لماذا لم يتحرك بعد؟ ما هي أولوياته؟ ما هي طموحاته؟ ما هو استراتيجيته أو دوره الاجتماعي؟

أنظر حولك، لا على أعداد السكان ولكن على كيفية أدائهم! قامت الصين ببحث حالة المرضى خارج حدودها فاكتشفت أن المرضى على قوائم الانتظار لإجراء عمليات القلب وعمليات أخرى طويل جدا. وقد يصل لأعوام فى بعض مناطق أوروبا. فقامت بإنشاء مستشفيات فاخرة بمناطق سياحية لاستقبال المرضى الذين هم على قوائم الانتظار لإجراء العمليات لهم. وقبل وبعد العملية يتضمن البرنامج العلاجي نزهات سياحية وبأقل من نصف الثمن الذى سيدفعونه في أوروبا أو أميركا. وكذلك فعلت الصين بالنسبة لعمليات التجميل التي أصبحت تجتذب آلاف اليابانيات الآن! من الواضح طبعا أن هذا أفضل من الاستثمار في القرى السياحية ألف مرة. ولأن المنافسة لا ترحم، قامت شر باختراع ورق تختفى الطباعة عليه خلال 12 ساعة ليعاد استخدامه مرة أخرى. لأنها لا تكف عن السؤال عملائها عما يرضيهم. فقالوا إن نفقات الورق الذى يستخدم لمرة واحدة مزعجة. فلم تقل لهم الشركة أن الورق المطبوع لا يرد ولا يستبدل.

وفى الهند مرة أخرى، اختفت عديد من الأدوات المنزلية التي تعمل بالكهرباء وحل محلها أخرى تعمل يدويا مثل الخلاط لتوفير الكهرباء! وفى برنامج أوبرا الشهير الذي يذاع على الفضائيات أعلنت مذيعته الشهيرة عن مسابقة تحت عنوان “فكرة كبير”. وتنافس فيها 6000 شخص على المنتج الذي ستشتريه أكبر قناة تروج للمنتجات ذات الأفكار الجديدة. وفازت بالمركز الأول هندية ستربح الكثير من فكرة كان السبب فيها أنها تريد أن تعد لزوجها طبقا حسن الشكل. أما عندنا فلا توجد قناة واحدة لا مصرية ولا عربية تشترى وتصنع وتروج لمنتجات يبتكرها الشباب. 

لكن في الولايات المتحدة، كان مشروع التخرج لطالب بجامعة ماساتشوستس هو فكرة إنشاء شركة توصيل البريد بشكل أسرع مقابل مزيد من الرسوم. وبعد التخرج طاف الشاب عارضا فكرته. ورغم أن كثيرين سخروا منها إلا أن مديرا بإحدى الشركات قال إنها تبدو مشروعا جيدا. ثم ولدت الفكرة فريدة وصغيرة باسم “دي إتش إل”، مجرد شركة على نطاق ولاية أمريكية واحدة. إلا أنها نمت بسرعة خرافية محليا ودوليا حتى قلدها الآخرون على مستوى العالم. 

الفرق بين مفهوم الإبداع عندنا وخارج أوطاننا هو أنك يجب أن تكون أحمد شوقي أو حسن فتحي ليقال عنك مبدع. لكن في الواقع هؤلاء طفرات، لأن الإبداع هو أن تقوم بحل أي مشكلة بفكرة جديدة، وليس من الضروري على الإطلاق أن تكون عبقرية. لذلك يندهش المصريون عندما يسافرون إلى الولايات المتحدة وأوروبا من الإطراء الذي يسمعونه عندما يقترحون فكرة جديدة تبدو لهم عادية. وذلك ببساطة لأن من مبادئ الإبداع ما يسمى بــ “الثناء الواجب”. وهي ثقافة ليست موجودة عندنا في الوطن العربي. 

وأحد أهم المبادئ التي علمها جون كاو للقطاع الخاص أنه لا جدوى من كثرة الحديث عن القدرة الإبداعية مع الاحتفاظ داخل مؤسستك بعمليات تقتل الروح والخيال. والثانية أنه لابد من المبادرة والمخاطرة التي هي أيضا جزء من الإبداع، لأنه إما أن تكون مبدعا أو سيأكلك الآخرون حيا. وعمليات الإبداع المقننة تمتزج فيها أطراف وأدوات عديدة. لكن خطواتها تتطلب من رأس المال المصري أن يحدد آليات للإبداع. وأن يعرف أن الإبداع ليست مسألة لتصفية الحسابات أو إلقاء اللوم على شخص محدد. لأنه فى الخارج عملية جماعية ضمن فرق عمل منظمة كل شخص له دوره فيها. 

أحد أسباب نجاح رأس المال في أي دولة بالعالم مخاطبته لاحتياجات الوطن. لا أن يتعامل معه الناس على أنه “مانح” للدخل! في عام 2007 التقى وزير الاقتصاد الألماني برجال المال والأعمال ليناقشهم فى المسؤوليات الاجتماعية التي يجب أن تضطلع شركاتهم بها. وبعد أن التقى بممثلي النقابات والجمعيات الألمانية، قال إنه يفكر في وضع ملصق لتمييز منتجات الشركات التي تضطلع بدور اجتماعي. المطلوب من مجتمع الأعمال المصري أن يحدد لنا كيف سنتوقف عن تصدير أفضل وأغنى رمال العالم بالسيليكون من سيناء وإعادة استيرادها مرة أخرى فى صور مختلفة من أقراص صلبة وأقراص ضوئية ..إلخ. أو بالأحرى كيف سنصنع أول جهاز كمبيوتر بالكامل. أو كيف سنغزو الفضاء أو نتنقل بعربات تسير بالطاقة الشمسية. مطلوب من رأس المال المصري أن يقول لنا الكثير.

مقالة نشرت لي في جريدة الجمهورية المصرية بتاريخ 06-13-2007
مصطفى علي درويش